مفاجآت مدوية في كأس العالم بغوا وانتصار للإرادة في السلفادور: الشطرنج يعيد رسم الخارطة

يشهد عالم الشطرنج تحولات دراماتيكية مثيرة، حيث باتت بطولة كأس العالم المقامة في غوا بالهند، والتي تبلغ جوائزها مليوني دولار، مسرحاً لسقوط الكبار، إذ ودّع النجوم المخضرمون المنافسة بعد تعرضهم لهزائم قاسية على أيدي لاعبين كان يُنظر إليهم على أنهم أقل حظاً. وفي الوقت الذي تشتعل فيه المنافسة في آسيا، تسطر السلفادور فصلاً إنسانياً مختلفاً للعبة، مستخدمة “رقعة الشطرنج” كأداة للحرية وإعادة التأهيل خلف القضبان، في مشهد يجمع بين حدة التنافس الرياضي وسمو الرسالة الإنسانية.

سقوط النخبة وصعود الجيل الجديد في غوا

في مفارقة لافتة، يُعد الصيني “وي يي”، البالغ من العمر 26 عاماً، هو الأكبر سناً بين المتأهلين لنصف النهائي يوم الجمعة، مما يعكس سيطرة الشباب على المشهد. كان “وي يي” يوماً ما بمثابة المعجزة، معروفاً بأسلوبه الهجومي اللامع وأصغر من كسر حاجز تصنيف الـ 2700 نقطة للنخبة، إلا أنه فاجأ الجميع باختياره التوقف عن اللعب لمدة ست سنوات لدراسة الاقتصاد والإدارة، وهو قرار يؤكد أنه لا يندم عليه. ومع ذلك، سجل عودة قوية في عام 2024 بفوزه ببطولة “فيك آن زي” المرموقة، واضعاً نصب عينيه التأهل لبطولة المرشحين عام 2026 كهدف رئيسي.

وقد وضعته قرعة ربع النهائي في مواجهة صعبة ضد المصنف الثاني وآخر الناجين من اللاعبين الهنود، “أرجون إيريغيسي”. وبعد ثلاثة تعادلات، حسم “وي يي” المواجهة في مباراة ماراثونية امتدت لـ 79 نقلة، استمر فيها خصمه باللعب حتى “كش مات”. سيواجه النجم الصيني في نصف النهائي الروسي “أندري إيسيبينكو” (23 عاماً)، الذي يُعد أبرز الأساتذة الكبار الشباب في بلاده، متحدياً بذلك هيمنة الجيل القديم بقيادة “نيبومنياشتشي” و”غريشوك”. وكان إيسيبينكو قد أقصى آخر اللاعبين الأمريكيين، “سام شانكلاند”، مستخدماً خطة نادرة ضد دفاع “فيليدور” (1 e4 e5 2 Nf3 d6 b3 Bb2) متبوعة بالتبييت في جناح الوزير.

الهيمنة الأوزبكية وتحديات الاندماج

على صعيد آخر، يبرز اسم “جافوخير سينداروف” (19 عاماً) كأصغر المتأهلين لنصف النهائي، وهو لاعب يقف على أعتاب النخبة العالمية، وقد أثبتت أوزبكستان علو كعبها رغم خروج نجمها الأول “نوديربيك عبدوساتوروف” مبكراً، والذي يستعد بدوره للمشاركة في بطولة لندن كلاسيك التي تنطلق الأربعاء المقبل في ملعب الإمارات. ستكون المواجهة في نصف النهائي “أوزبكية خالصة”، حيث يلتقي سينداروف بمواطنه “نوديربيك يعقوبويف” (23 عاماً).

ويُعرف يعقوبويف بقصته الشهيرة في بطولة “فيك آن زي” عندما رفض مصافحة اللاعبة الهندية “فايشالي راميشبابو” لأسباب دينية، وهو الموقف الذي تصدر عناوين الأخبار حينها قبل أن يعتذر لاحقاً مقدماً الشوكولاتة والزهور. ويرى المحللون أن طريق يعقوبويف إلى نصف النهائي كان الأسهل نسبياً، وفي حال وصوله لبطولة المرشحين، قد يواجه مصيراً مشابهاً للاعب “نجات عباسوف” الذي كان هدفاً سهلاً للمنافسين الكبار في عام 2024. ويمكن لعشاق اللعبة متابعة هذه المواجهات الحاسمة عبر منصات مثل “ليشيس” و”تشيس دوت كوم” مع تحليلات معمقة.

بين أمجاد ليناريس والواقع الجديد

تعيد هذه الأحداث المتسارعة للأذهان ذكريات مدينة “ليناريس” الإسبانية، التي كانت يوماً ما قبلة الشطرنج وموقعاً لبطولات النخبة السنوية حيث كانت التعادلات أمراً غير مستحب. شهدت تلك الحقبة لحظات تاريخية، منها مباراة كاسباروف الخالدة ضد توبالوف عام 1999، وحادثة كسر كاسباروف لقاعدة “اللمس تحرك” ضد جوديت بولغار عام 1994، وتصدر كاربوف للبطولة التي وُصفت بأنها الأقوى عبر التاريخ. بيد أن الواقع اليوم في غوا يكتب تاريخاً جديداً بأدوات وأسماء مختلفة.

نقلة نحو الحرية في السلفادور

بعيداً عن صخب البطولات الكبرى، شهد “الاستاد الوطني خورخي إل ماجيكو غونزاليس” في السلفادور لحظات إنسانية مؤثرة، حيث خرج سجناء مشاركون في خطة “صفر وقت فراغ” (Plan Cero Ocio) من نظام السجون لتلقي تكريم علني بمناسبة إنجازاتهم في بطولة الاتحاد الدولي للشطرنج الخامسة للمعتقلين عبر الإنترنت. حضر الحفل قادة من الاتحاد الدولي للشطرنج (FIDE)، واتحاد الأمريكتين، والمعهد الوطني للرياضة في السلفادور (INDES)، مما يعكس التزاماً مشتركاً بجهود إعادة التأهيل.

وضمت قائمة الحضور شخصيات بارزة مثل “خوسيه كاريلو بوجول”، رئيس الاتحاد الدولي للأمريكتين، و”دانا ريزنيس”، نائبة رئيس مجلس إدارة الاتحاد الدولي، إلى جانب مسؤولين محليين من إدارة السجون واتحاد الشطرنج السلفادوري. وقد أثمر هذا التعاون عن نتائج مبهرة، حيث حصد فريق السيدات الميدالية الذهبية، بينما نال فريق الرجال الميدالية الفضية، وذلك بفضل الدعم الفني والتنسيق المستمر الذي شمل تدريبات مكثفة تحت إشراف المدرب الدولي “روبرتو كالديرين”.

الانضباط والأمل خلف الأسوار

كجزء من البرنامج التأهيلي، يتلقى المشاركون تدريبات في الشطرنج خمس مرات أسبوعياً، مما يوفر لهم الهيكلية والتركيز والقدرة على التحكم في الانفعالات. وقد عبر السجناء عن تأثير اللعبة بكلمات قوية، حيث قال أحدهم: “الشطرنج يمنحني نظاماً؛ التدريب اليومي يساعدني على البقاء هادئاً ومركزاً. إنها المرة الأولى منذ سنوات التي أشعر فيها بأنني أتحسن في شيء ما”. وأضاف آخر: “عندما ألعب، أشعر بالحرية. اللعبة تذكرني بأن عقلي لا يزال ملكي، وبأنني قادر على اتخاذ قرارات أفضل، نقلة تلو الأخرى”.

تأتي هذه المبادرة ضمن التزام الاتحاد الدولي للشطرنج بجعل عام 2025 “عام الشطرنج الاجتماعي”، حيث تفخر المنظمة بالوقوف إلى جانب السلفادور في تعزيز البرامج التي تستخدم الشطرنج كجسر للتعليم والدمج الاجتماعي، مؤكدة أن هذا التكريم لم يكن مجرد ميداليات، بل احتفاءً بالتحول الإنساني والقدرة على التفكير المستقبلي، سواء على الرقعة أو في معترك الحياة.